“ابنكم مصابٌ بمتلازمة أسبرجر” كانت هذه كلمات الطبيب.
تذكرت حين ذهبت لاصطحابه من المدرسة وبحثت عنه كثيرًا، دخلت فصله فوجدته متكورًا على نفسه في إحدى الزوايا ويبكي بحرقة، أزحتُ يديه من على وجهه وسألته ما الخطب؟ صاح في وجهي بكلماتٍ غير مفهومة : “أنا أحمق، يقولون أحمق، المعلمة أنت لا تفهم تقول”.
حاولت تهدئته وحينما استكنّ أمسك بيدي ورفع قميصه وجعلني أتحسس مكان الكدمات!صُعقت مما رأيت وأخذ يتمتم مرةً أُخرى “يضربوني لأني أحمق، لا يحبني أحد”.
يومها قررت أننا لابد أن نعلم ما به.
ذهبنا بعد أسبوع لطبيب أطفال، حوّل حالته لاختصاصي أعصاب،طمأننا الطبيب بعد تشخيصه أن هذا المرض محمود فأغلب المخترعين والمبدعين كانوا مصابين به، مثل ماري كوري، ونيكولا تيسلا، وموزارت.
ما هي متلازمة أسبرجر ؟
هي إحدى اضطرابات النمو العقلي التي يولد بها الإنسان. وتنتمي هذه المتلازمة لأمراض الطيف التوحدي،
وتصنّف في أعلى درجات الطيف، التي يكون فيها المصاب بالتوحد لديه معدل ذكاء مرتفع، طبيعي أو أعلى من الطبيعي.
وصفها أول مرة الطبيب هانز أسبرجر في أربعينيات القرن العشرين. كان قد لاحظ أنماطًا غريبة في شخصيات بعض الأطفال الذين يمتلكون معدل ذكاء طبيعي ومهارات لغوية لا تختلف عن أقرانهم من نفس الأعمار.
تشابهت هذه الأنماط الشاذة لدى الأطفال مع أعراض التوحد المعتادة مثل مواجهتهم صعوبات في التواصل الاجتماعي مع بقية الناس.
أُضيفت متلازمة أسبرجر عام 1994م للدليل الإحصائي والتشخيصي للأمراض العقلية (DSM-IV)، بوصفها حالة منفصلة عن التوحد. وظلَّت هكذا إلى أن صُنّـفت ضمن أمراض الطيف التوحدي بشكل رسمي عام 2013م.
تندرج اليوم هذه المتلازمة تحت مصطلح “التوحد ذو الأداء الوظيفي العقلي العالي” أو High functioning autism. ما يعني أنّ المصاب بأحد أنواع هذا الجزء من الطيف التوحدي يمتلك ذكاء طبيعي مثل بقية البشر، بل ويُحتمل أنه يمتلك معدلات أعلى من الطبيعية.
متلازمة أسبرجر والتوحد
لا يمتلك كل المصابين بالتوحد نفس الصفات ولا التصرفات بنفس الدرجة لذلك يدعى التوحد بـالطيف التوحدي Autism spectrum.
إذ تتدرج الصفات وعلامات التوحد في الشدة وتظهر في عدة أشكال، فنجد في أدنى مقياس الطيف التوحدي أولئك الذين يمتلكون معدلات منخفضة جدًا من الذكاء المنطقي والتفاعلي الاجتماعي.
بينما يُصنف أصحاب معدلات الذكاء الطبيعية والمرتفعة من مرضى التوحد في أعلى الطيف.
ومن هؤلاء: المصابون بمتلازمة أسبرجر، والمصابون بمتلازمة سافانت.
ونحن الآن بِتنا نعلم أن التوحد قد يكون إشارة لامتلاك الشخص قدرات عقلية مرتفعة.
بل ويُعتقد أن معظم العباقرة والعلماء على مر التاريخ يمتلكون درجةً من درجات التوحد.
أعراض التوحد
يُظهِـر مرضى التوحد صفات مشتركة ومميزة قد تؤدي إلى تشخيصهم بالتوحد من الوهلة الأولى مثل:
- ردود أفعال وترجمة مختلفة للمس
لا يُفضل معظم المتوحدين أن يلمسهم أحد، كما لا يستطيعون ترجمة الدوافع العاطفية وراء هذا التصرف.
- اختلاف قدرات التعلم وحل المشكلات
قد نجدهم يتعلمون مواضيع صعبة ومعقدة بسرعة، ولكن تظهر لديهم مشكلات في التعامل مع المهام الجسدية وحل المشكلات.
- تمركُز الاهتمامات حول مواضيع معينة
هؤلاء المميزون تسحرهم موضوعات محددة وتضحي هوسًا بالنسبة إليهم؛ يتحدثون عنها طوال الوقت ويبحثون فيها بتعمق.
- أنماط حركية متكررة
يميل مرضى التوحد لأشكال حركة محددة وتدعى بـ”الحركات النمطية الارتكازية”، مثل التحرك للأمام والخلف، أو التصفيق باليدين، أو المشي بشكل غير متوازن.
- نزعة عارمة للروتين والنظام
هؤلاء ملوك الروتين، فـ هُم يضعون أغراضهم بشكل محدد ويؤسسون لأنفسهم نظامًا محددًا لا يحبون أن يُخلّ به أحد.
- صعوبات التواصل الشفهي وغير الشفهي
ينخفض الذكاء اللغوي عند أدنى الطيف التوحدي، فلا يستطيعون التعبير عن أفكارهم بسهولة، كما لا يستطيعون إظهار مشاعرهم والتعبير عنها بشكل صحيح.
- صعوبات التواصل الاجتماعي
يرجع ذلك لانخفاض الذكاء العاطفي والاجتماعي.
هم لا يستطيعون تفسير الإيماءات الحركية، كذلك لا يستطيعون ترجمة تعبيرات الوجوه، ومشاعر الآخرين بسهولة والتفاعل في المواقف الاجتماعية.
إذًا كيف تختلف متلازمة أسبرجر عن التوحد؟ ولِمَ تُصنف تحت مِظلة الطيف التوحدي ؟.
للإجابة على هذه الأسئلة ينبغي لنا التعرف إلى صفات وأعراض مصابي أسبرجر.
أعراض متلازمة أسبرجر
يمتلك المصابون بهذه المتلازمة ذكاءً مرتفعًا لذا فقد تختلف الأعراض بشكل طفيف لديهم.
ولكنهم يشتركون مع سائر مرضى التوحد في الكثير من الصفات وتظهر الأعراض بالشكل التالي:
1.ضعف التواصل البصري
لا يستطيع أغلب المصابين بأسبرجر أن يتواصلوا بصريًا بشكل جيد مع الآخرين عند الحديث معهم.
2.التركيز على موضوع واحد
يكون بشكل مبالغ فيه نظرًا لاختلاف اهتماماتهم عن باقي أقرانهم.
قد لا يتقبل الآخرون فكرة تسليط الحديث على محط اهتمامهم المفضل وقلة التنويع في الكلام.
3.ضعف الاستجابة في المواقف الاجتماعية
هي صفة مشتركة لدى كل المصابين بالتوحد لانخفاض الذكاء الاجتماعي لديهم.
لكنّ المصابين بمتلازمة أسبرجر يظهرون فهمًا أكبر للمواقف الاجتماعية عن سائر المتوحدين.
4.امتلاك ذكاء لغوي طبيعي واستخدام عبارات خاصة
لا تواجههم صعوبات عند كبرهم في تعلم اللغة ومفرداتها بل ويكونون طبيعيين جدًا كسائر أقرانهم في نقطة قدراتهم التعلُّمية.
وقد يتمتعون بذكاء لغوي مرتفع لذا نجدهم يستخدمون عبارات خاصة بهم ومفردات مميزة.
5.استجابة عاطفية مبالغ بها
لا يظهـِر معظم المصابين بهذه المتلازمة ردود أفعال طبيعية كما لا يعبرون عن مشاعرهم بشكل طبيعي.
يفقدون التحكم في أعصابهم أحيانًا عند الشعور بالغضب والاستياء.
6.امتلاك منظورهم الأحادي الخاص
يجد المصابون بمتلازمة أسبرجر صعوبة في فهم وجهات نظر الآخرين، أو النظر للعالم من منظور شخصٍ آخر مع امتلاكهم معدلات ذكاء عالية.
7.استجابة مختلفة للمحفّزات الحسية
يتميز المصابون بأسبرجر إمّا بحساسيتهم العالية للمحفزات، أو بانخفاض حساسيتهم تجاهها.
قد تجدهم يلمسون الأشياء بشكل متكرر، أو يتعمدون شم الروائح والاقتراب من مصدرها وغيرها من المواقف.
8.صعوبات التحدث
يوصف نمط حديثهم بالمتكرر والآلي -يتحدثون مثل الروبوت- لا يعرفون كيف يضبطون نغمة حديثهم لتلائم المواقف المختلفة.
9.مهارات تواصل غير شفهي منخفضة لحد كبير
لا يفهم المصابون بمتلازمة أسبرجر الإيماءات الحركية.
وليس باستطاعتهم تفسير تعبيرات وجه الآخرين، كما لا يستطيعون ترجمة لغة الجسد بشكل سليم.
10.اتساق منخفض في الحركة
تظهر لديهم مشكلات في القدرة الحركية؛ فلا يستطيعون القيام بالأشياء الصغيرة أحيانًا مثل ربط شريط الحذاء، ولا يقدرون على الجلوس أو السير بشكل معتدل.
11.التركيز العالي والهوس
تعد ميزة كبيرة لدى المصابين بـ أسبرجر هي قدرتهم على التركيز بشدة على موضوعٍ ما، خاصةً إذا ما أثار فضولهم.
كما يُظهرون فـَهمًا عميقًا للمواضيع التي تهمهم ودقة ملاحظة عالية.
تشخيص متلازمة أسبرجر
لا تتوفر اختبارات تشخيصية ومعايير محددة لتشخيص هذه المتلازمة في الوقت الحالي، وخاصةً لتشخيص الكبار.
يشخص المصابون بأسبرجر في صغرهم ويُعد من غير المُرجح وصول المصاب للنضج دون تشخيص، لكنه أمر غير مستحيل.
وينصح بالعرض على أكثر من مختصٍ في اختصاصات مختلفة وحسب عمر الفرد.
من هذه التخصصات: اختصاصي الأمراض النفسية، واختصاصي طب أعصاب الأطفال، واختصاصي طب الأطفال التنموي، واختصاصي المخ والأعصاب.
قد يعتمد الطبيب عدة مقاربات للتشخيص منها:
- السؤال المباشر عن الأعراض
قد يسأل طبيب الأطفال الأبوين عن الأعراض التي تميز هذه المتلازمة مثل تكرار أنماط التصرف لدى الطفل، ومدى تركيزه واهتمامه بموضوع معين.
يسأل أيضًا عن متى بدأ الطفل في تعلم الكلام ومدى استجابته للمؤثرات وتفاعله مع والديه، كما يستفسر عن بدء ظهور الأعراض وملاحظتها.
- الملاحظة والتقييم للتفاعل الاجتماعي
يلجأ الطبيب إلى سؤال المريض عن كيفية تفاعله مع الآخرين وإذا ما كان لديه أصدقاء.
ويقدم له أمثلة على مواقف اجتماعية ليرى كيف يتصرف بها وما هي ردود أفعاله، كما يسأل المحيطين به عن هذا الأمر.
- استبعاد عوامل التداخل
قد يود الطبيب أن يستبعد أية عوامل من الممكن أن تتداخل في التشخيص وتؤدي لظهور أعراض مشابهة لمتلازمة أسبرجر، مثل وجود أمراض عضوية أو نفسية.
- التفريق بين الأعراض الأخرى وأسبرجر
يشعر المصابون بهذه المتلازمة بأعراضٍ أخرى مثل الأرق، وفرط النشاط، والاكتئاب.
إن لم يكن الطبيب المختص متمرسًا بالقدر الكافي واستنتج هذا التلازم، فقد يشخص المريض بمرض نفسي عوضًا عن تشخيصه بأسبرجر.
علاج متلازمة أسبرجر
يكون العلاج باتباع عدة مقاربات بالتعاون بين المختصين المختلفين كما أشرنا مسبقًا.
لكل طبيب طريقته ومقاربته بالتعاون مع الأطباء الآخرين المتابعين للحالة.
تنقسم أنواع العلاج إلى:
العلاج السلوكي المعرفي
يساهم بشكل كبير في تخطي نوبات العزلة والأرق التي يمر بها المصابون بأسبرجر.
يساعدهم أيضًا على السيطرة على انفعالاتهم عند الشعور بالغضب والاستياء.
علاج التخاطب
يساعد اختصاصي التخاطب واللغة المريض على تنمية وتقويم طرق التواصل الشفهي لديه.
و يعلّمه كيف يتحكم في نبرة صوته لتتلاءم مع المواقف المختلفة.
العلاج المهني
يكون بمساعدة مختص مهني لتخطي عقبات التواصل التي تواجه المصاب بمتلازمة أسبرجر في محيط عمله.
كذلك يوجهه لكيفية الحفاظ على عمله والوصول للنجاح.
العلاج الاجتماعي
ينظم المختص بالأمراض النفسية جلسات لتنمية مهارات التواصل الاجتماعي لدى المصابين بأسبرجر.
هذه الجلسات إما تكون على انفراد أو في مجموعات مع آخرين.
تعليم وتدريب الوالدين
يرتكز هذا النوع من العلاج على زيادة الوعى لدى الآباء بحالات أبنائهم المصابين بمتلازمة أسبرجر.
وفيه يتم تدريبهم على كيفية فهم سلوكيات أطفالهم وكيفية التواصل معهم بشكل سليم.
التحليل التطبيقي للسلوك (applied behavior analysis)
هو نوع من العلاج يعتمد على نظريات تربوية.
ينطوي على تشجيع السلوكيات الإيجابية لدى الصغار المصابين بأسبرجر، ورفض السلوكيات السلبية من قبل الوالدين والمعلمين.
يكون التشجيع أحيانًا بوضع مكافآت للأطفال في حال التزامهم بالسلوكيات الحسنة.
هذا يعمّق فهم الصغار لطبيعة السلوكيات المقبولة وكيفية الالتزام بالتعليمات.
العلاج الدوائي
يساهم بشكل كبير في التحكم وعلاج الأعراض إذ لا يوجد دواء بعينه معتمد لعلاج متلازمة أسبرجر، ومن أمثلة الأدوية المستخدمة:
1.مضادات استعادة السيروتونين الانتقائية (SSRI) مثل الفلوكسيتين والسيتالوبرام لعلاج أعراض الاكتئاب والضيق التي يشعرون بها.
2.الأدوية المنبهة: تستخدم أيضًا في علاج متلازمة فرط الحركة وتشتت الانتباه
؛ وذلك لكون المصابين بأسبرجر يمتلكون بعض الأعراض لهذا المرض مثل انخفاض مدّة تركيزهم.
ومن هذه الأدوية: الأمفيتامين، والديكستروميثورفان، والديكس ميثيل فينيدات.
3.مضادات الذُّهان: تستخدم لعلاج بعض أعراض الهلاوس التي تظهر على المصابين بمتلازمة أسبرجر نتيجة العزلة ونشاطهم العقلي المرتفع.
ومن أمثلتها: الريسبيرودون والكويتابين والأريبيبرازول.
(يـَحظر استخدام هذه الأدوية دون استشارة الطبيب المختص).
في النهاية يجدر بنا وضع مقولة (مع النقم تأتي النِّعم) نصب أعيننا، فمتلازمة أسبرجر تحمل لصاحبها نـِعمًا وفوائد كثيرة. قد لا ترونها من هذا المنظور لكونكم آباءً لمصابين بها. لكن عليكم ألا تغفلوا عنها؛ فسوف يلمع نجم طفلكم ويتألق شأنه، شأن العظماء الذين كانوا يعانون نفس المرض وخلّد التاريخ ذكرهم.