بقلم د.جهاد طه
هل سمعتم عن متلازمة ستندال من قبل؟
هنا واحد من أقدم المتاحف في العالم ويضم أعمالًا فنية ذات مستوى راق،
لوحات هنا وهناك ذات مستوى ساحر من الجمال والرقي، وبينما يتجول فيه الزوار في مشهد اعتيادي في مثل هذه المتاحف،
فجأة سقط رجل بعد مشاهدته لإحدى اللوحات، وبالفحص تبين أنه أصيب بنوبة قلبية رغم أنه لم يكن يعاني من أمراض قلبية،
وقيل إنه أصيب بمتلازمة ستندال، فما هذه المتلازمة وماذا تعني؟
إجابة هذا السؤال سيكون مقالنا هذا.
لم تكن هذه الحالة الأولى من نوعها في المدينة التي تضم هذا المتحف، فقد شهدت هذه المدينة العديد من مثل هذه الحالات،
والمتحف الذي حدث فيه هذا المشهد هو متحف معرض أوفيزي وكانت هذه الحالة هي آخر الحالات التي أصيبت بمتلازمة تسمى متلازمة ستندال، فما هي متلازمة ستندال وما أسبابها؟
ما هي متلازمة ستندال؟
متلازمة ستندال حالة طبية نادرة غالبًا ما تصيب السياح في مدينة فلورنسا، وتسبب لهم حالة من الاضطراب العقلي خلال زيارتهم للمدينة.
أُعتقد في وقت سابق أن هذا ربما يحدث نتيجة سحر أسود قديم موجود في الأعمال الفنية الرائعة منذ عصر النهضة.
تعد هذه المتلازمة اضطرابًا نفسيًا جسمانيًا (مرض عقلي جسدي)، يتضمن أعراضًا تشمل سرعة ضربات القلب،
والإغماء والارتباك بل قد يصل الأمر إلى حدوث هلاوس.
تحدث هذه الظاهرة حينما يتعرض الشخص إلى ظواهر فنية ذات مستوى عال من الرقي،
مثل اللوحات أو التماثيل التي تكون غاية في الدقة والجمال، فهذه المتلازمة مرتبطة ارتباطًا وثيقا بالجمال! وتسمى المتلازمة أيضًا بمتلازمة فلورنسا لأنها غالبًا ما تحدث في مدينة فلورنسا.
تقتصر هذه المتلازمة فقط على الظواهر الفنية التي من صنع الإنسان، أي لا تشمل مظاهر الجمال الطبيعية.
والآن لننتقل إلى تجرِبة أول مريض وثق هذه الظاهرة واصفًا ما شعر به خلال إصابته بها.
سبب تسمية متلازمة ستندال وتاريخها
سميت هذه الظاهرة على اسم المؤلف الفرنسي ستندال الذي وصف تجربته مع هذه الظاهرة عام 1817 خلال زيارته لفلورنسا في كتابه Naples and Florence: A Journey from Milan to Reggio .
عندما زار ستندال كنيسة سانتا كروش، شعر حينئذ بمشاعر عميقة وكتب تعليقًا على ذلك:
“لقد شعرت بشعور أشبه بالنشوة من فكرة كوني موجودًا في فلورنسا بجانب الرجال العظام حيث توجد قبورهم،
لقد استمتعت بالتأمل في الجمال الراقي، وشعرت بخفقان في قلبي،
وقد وصل بي الأمر إلى أن غمرتني حينئذ مشاعر مقدسة ومبهجة، وشعرت وكأن الحياة تنبض مني، وكنت أمشي وأنا أشعر بالخوف من وقوعي، كل شيء كان يتكلم بوضوح إلى روحي.”
وبعد عرضنا لتجربة ستندال مع هذه الحالة المرضية، لنعرض لكم الأعراض الكاملة التي قد تظهر على المرضى.
أعراض متلازمة ستندال
نشرت طبيبة نفسية تدعى رازيلا ماغريني تعمل في مستشفى في مدينة فلورنسا أبحاثًا عن متلازمة ستندال،
وشملت هذه الأبحاث ليس فقط منهجية الأبحاث الإحصائية في دراسة الحالات، بل عرضت أيضًا وصفًا تفصيلًا عن بعض هذه الحالات.
وقد ذكرت في بحثها الأصلي أنواع الأعراض الأساسية التي قد تظهر على من قد يعاني هذه الظاهرة، وتشمل هذه الأعراض:
- تغير في إدراك الألوان أو الأصوات إلى جانب زيادة الشعور بالذنب أو التوتر أو الاضطهاد.
- الشعور إما بالقلق الاكتئابي وعدم الكفاءة أو الشعور بمشاعر متناقضة تمامًا مثل النشوة أو القدرة المطلقة.
- وجود نوبات هلع وأعراض جسدية للقلق المتزايد مثل وجود ألم في الصدر.
فئات مرضى متلازمة ستندال
لاحظت الطبيبة رازيلا ماغريني معاناة الكثير من السياح الذين يزورون فلوريدا عددًا من الأعراض التي تتدرج من نوبات الهلع المؤقتة إلى أعراض يمكن أن تستمر من يومين لثلاثة أيام.
وقد وثقت الطبيبة فيما بعد 106 حالة شبيهة،
سجلت في المستشفى ما بين 1977 و 1986 في كتابها الذي صدر عام 1989.
ويعرض كتابها الحالات التي سجلتها تفصيليًا، فقد عانت هذه الحالات من تفاعلات عاطفية شديدة،
أدت إلى قلق شديد ونوبات ذهانية، نتيجة لمشاهدتهم لوحات وتماثيل مشهورة وقد قسمت مرضى هذه الظاهرة إلى ثلاث فئات:
- الفئة الأولى التي تضم معظم المرضى وكان عددهم 70 مريضًا، وفي هذا النوع ظهرت على المرضى أعراض ذهانية مثل البارانويا.
- ثم الفئة الثانية كان عددهم 30 مريضا، وقد ظهرت عليهم أعراض عاطفية ووجدانية.
- الفئة الثالثة كان عددهم خمسة مرضى، وقد ظهر عليهم أعراض جسدية للقلق مثل نوبات الهلع.
وقد ذكرت أيضًا أن 38% من مرضى النوع الأول ونصف مرضى النوع الثاني لديهم تاريخ مرضي سابق بالإصابة بأحد الأمراض النفسية.
ولكن ما سبب ظهور مثل هذه الأعراض على المرضى حينما يرون مظاهر الجمال الحضارية؟
أسباب الإصابة بالمتلازمة وعوامل الخطر
لا يوجد أسباب مباشرة ومعروفة للمتلازمة، ولكن كأي مرض آخر، يوجد عوامل خطورة تزيد من الإصابة بمتلازمة ستندال وتشمل عوامل الخطورة:
- العمر والحالة الاجتماعية والمستوى التعليمي.
- الأشخاص ذات الحساسية العالية خاصة للفن.
- الوحدة
- زيادة التوتر حيال السفر، ولهذا ينصح بشدة بالاسترخاء قبل السفر وشرب كمية كافية من السوائل، والحماية من أشعة الشمس.
- الوصول إلى نهاية الرحلة، نعم ما قرأته صحيحا، فانتهاء رحلة السائح قد يحفز ظهور هذه الحالة المرضية، ولكن ما العلاقة بين انتهاء الرحلة ونشوء مثل هذه الظاهرة؟
تخيل معي شعور سائح في نهاية رحلته في فلورنسا، مدينة ذات فن راق ورفيع، وهو الآن في طريقة للانتقال من هذه المدينة التي تشبه قطعة من الجنة إلى مسكنه الأصلي الذي لا يقارن أبدًا بروعة هذا المكان، بالطبع فإن هذا قد يشعل شعورًا عميقًا من الحزن الذي قد ينتج في النهاية أعراضًا مؤلمة لدى المسافر.
- التنشئة الدينية! كما ترى عامل الخطورة الأخير يدعو إلى التأمل، فإن تاريخ الدين -أي دين- مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفن فكثير من روائع الأعمال الفنية في العصور الوسطى أو عصر النهضة ما كانت لتصنع إلا كمحاولة لتمثيل أحداث أو رموز مكتوبة في النصوص المقدسة.
من المعلوم أن بيان الظواهر والأحداث المعجزة، وتصوير وتمثيل عظمة وقوة الروحانيات من الغايات التي يكون الأدب وسيلة لها، ولهذا فكثير من القطع الفنية صنعت بناء على طلب من الكنيسة ورجال الدين، لتملأ جدران الكاتدرائيات والمساجد والمعابد اليهودية
علاج متلازمة ستندال
- إن العلاج المعروف إلى الآن لهذه الحالة يكون بمنع الإصابات البالغة التي قد تنتج من حالة الإغماء، أو بمنع المضاعفات الرئيسية المتعلقة بالمتلازمة بالإضافة إلى إبعاد الشخص عن المكان الذي حدثت فيه الظاهرة.
- تشير إصابة الشخص بمتلازمة ستندال إلى احتمالية تكرارها عدة مرات على مدار الحياة.
بعدما عرفنا هذه المتلازمة وعرضنا أعراضها وعوامل الخطورة للإصابة لها، لعلك تتساءل هل هذه المتلازمة اضطرابًا نفسيًا حقيقيًا أي هل يمكن أن يجعلنا شدة الجمال نمرض؟ دعنا نجيب عن هذا السؤال في الفقرة التالية.
هل متلازمة ستندال اضطراب حقيقي؟
- في حين تؤكد الطبيبة مارغريني -التي وثقت حالات متلازمة ستندال- أنها مرض نفسي حقيقي، إلا أنه لا يوجد دليل كاف يدل على أنها اضطراب نفسي محدد.
- كما أنه لم تدرج هذه الظاهرة ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية بعد، ولكن يظن البعض أن أنها قد تضاف في الإصدارات القادمة للدليل وأن هذا الأمر فقط يحتاج إلى وقت.
- ومما يدعم أن هذه الحالة المرضية حقيقية وصف بعض المشاهير لتجربتهم خلالها، والآن لنعرض توثيق بعض المشاهير لهذه الظاهرة.
مشاهير أصيبوا بهذه المتلازمة
يخبرنا التاريخ عن مشاهير مثل فرويد ومارسيل بروست أصيبوا بهذه الحالة المرضية:
- سيجموند فرويد المحلل النفسي فقد كتب واصفًا مشاعر شديدة من الاغتراب وتبدد الشخصية عند زيارته لأكروبوليس أثينا.
- الكاتب دويسكفي الذي أصيب بحالة من الشلل الشديد والإغماء عندما شاهد لوحة في بازل في سويسرا.
- الروائى الفرنسى مارسيل بروست الذي تعرض لنوبات من الربو وذكرها في روايته البحث عن الزمن المفقود
متلازمات الانفعال الشديد الأخرى المرتبطة بأماكن معينة
لا شك أن طبيعة هذا المرض تبدو غريبة قياسًا إلى باقي الأمراض المعتادة، ولكن ليست هذه الحالة المرضية الوحيدة المرتبطة برؤية أماكن معينة، فتوجد متلازمات الانفعال العاطفي الشديد الأخرى مثل:
متلازمة القدس:
-تتفق متلازمة القدس مع متلازمة ستندال في كونها تصيب السياح فقط، وتسبب اضطرابًا في العقل.
-ترتبط القدس في أذهان السياح بالعظمة والإبهار فهي تعد مدينة مقدسة لثلاثة من أكثر الأديان المتبعة والمؤثرة على وجه الأرض، الإسلام والمسيحية واليهودية، حيث ترتبط هذه الظاهرة ارتباطا وثيقا بالدين، وقد تصيب أناس من كافة الأطياف.
متلازمة باريس:
-متلازمة باريس حالة نفسية غالبًا ما تصيب اليابانيين بعد تفاجئهم أن باريس ليست باريس!
تعرض وسائل الإعلام باريس كمكان هادئ وودود وكلمة باريس ترمز عندهم إلى برج إيفل والمقاهي الهادئة، ولكن ليس هذا ما ينتظرونه السياح هناك، فما يجدونه هناك السرعة والصخب والحداثة.
وأخيرًا عزيزي القارئ، إذا كنت محظوظا بزيارة أحد المعالم السياحية التي تشتهر بها متلازمة ستندال في يوم من الأيام، فعليك أن تتأكد من إجراءات الاستعداد للسفر من معالجة توتر السفر وأخذ كمية كافية من السوائل، فعليك أن تنتبه حتى لا تجعل الجمال يمرضك!
إن كانت لديك أي تعليقات أو أسئلة تخص المقال، فنحب أن نتشرف بها في تعليقات هذا المقال، وإذا كنت قد زرت أي من الأماكن التي تشتهر بها هذه الظاهرة، فما رأيك في أن تخبرنا بتجربتك هناك؟
للاطلاع على مزيد من المتلازمات النفسية، يمكنك أن تقرأ أيضا:
