في زمن تسارع المعلومات وتطور مواقع التواصل، أحجم الشباب عن القراءة، لم يعد الكتاب يستهوي أذواقهم أو يستميل مسامعهم أو يلمس قلوبهم، عدا ما كان لدراسة أو عمل، حتى جاء أحمد خالد توفيق من بين الشباب وإليهم، يصغي لحديثهم، ويتحدث بلغتهم، ويكتب لهم.
أحبه الشباب وأقبلوا على كتبه، فما سر هذا الكاتب؟ ولماذا أحبه الشباب وعشقوا رواياته؟ وما الذي يميزه عن غيره؟
صوغ المعاني، حرفةُ الكاتب أحمد خالد توفيق
لو طلب منك أحدهم -ولم تكن كاتبا- أن تصوغ معنىً عذباً في قالب لغوي شيق لاستعصى ذلك عليك واستثقلته.
قد تعي المعنى ولكن لا تستطيع إلى اللفظ سبيلا، المعاني موجودة في كل مكان وزمان، العبرة دوما بمن يصوغ المعنى حرفا.
نعرف العبارة الشهيرة لمحمود درويش “وإن أعادوا لك المقاهي القديمة فمن يعيد لك الرفاق؟” معنى العبارة.
جوهرها قد يخطر على كل بال (جمال المكان بمن سكنه لا بالمكان ذاته) جميعنا يدرك ذلك، ولكن درويش استطاع أن يصوغ المعنى في اللفظ فاستحقت عبارته هذا الانتشار.
وهذا ما فعله أحمد خالد توفيق، صاغ المعاني حرفا عذبا،
وقد يختلف الطعم تبعا لاختلاف الأذواق فما تراه عذباً يراه غيرك مراً،
ولكن يبقى الكاتب صائغا للمعاني، تماما كصائغ الذهب فهو لم يأتي به من العدم، وإنما صاغه قرطا أو عقداً جميلا.
العبارات الرنانة
يقول أحمد خالد توفيق في كتابه شآبيب: “لعنة الزواج الدائمة هي أنك لا تستطيع أن تقول لشريكك كن فيكون؛
لا بد من رأي مستقل يعارضك لابد أن يسحق أحدهم إرادة الطفل العنيد في داخلنا.”
تعبيرُ دقيقٌ سائغٌ للقارئين المتذوقين، تجنب فيه الكاتبُ أسلوب المتحذلقين،
الذين يُحمّلون المعاني البسيطة ما لا تطيقه من ألفاظ رشيقة،
فتجدهم يكررون لك الحروف الرنانة، حروف القاف والطاء والباء، ليكسوا المعاني المتصدعة ثوب الألفاظ الرنانة، فيتكلفون ويتشدقون.
لم يتشدق أحمد في كتاباته ويتكلف بل أنزل كل نص منزلته، وساق كل سياق إلى حيث ينتمي،
أتى أحمد بما لم يأت به أحد قبله، فاقترب من الشباب بعبراته العذبة التي تحكي حياتهم بحروفهم.
يوتوبيا – بين المعنى الأول ومعنى توفيق
“المدينة الفاضلة” مصطلح يستخدمه كثير من الكتاب ليضفوا رونقا غربيا لكتاباتهم الشرقية، يتغنون بها ويحلمون، ويصفون عالما خياليا لا وجود له،
والحق أن أول من أوجد هذا المصطلح هو الكاتب الإنجليزي توماس مور في كتابه “يوتوبيا” هو مصطلح يوناني “u-topos” يعني”ليس في أيِّ مكان.”
كتب توماس قصته عن المدينة الفاضلة، مستحيلة الوجود، حيث العدل فلا ظلم، والأمن فلا خوف، والسلام فلا حرب،
سرت “يوتوبيا” على الألسنة في اللغة الإنجليزية ولغات أخرى لتشير دوما لذلك المكان المثالي مستحيل الوجود،
حتى جاء أحمد خالد توفيق وكتب روايته العربية (يوتوبيا) التي وصف فيها المدينة الظالمة،
حيث تنتهي الطبقة المتوسطة من المجتمع وتبقى الطبقة الكادحة تعيش على الكفاف والطبقة الأرستقراطية تعيش في النعيم والهناء.
غيّر بروايته مفهوم يوتوبيا فارتبط في ذهن قرّاءه بمفهوم مغاير لأصله، ولعل توفيق أراد السخرية من المدينة الفاضلة، وتغيير هذا المعنى مستحيل الوجود لمعنى هو أقرب للحقيق
أحمد خالد توفيق ككاتب ساخر
يعيش العرب حقبةً صعبة، تكالبت عليهم فيها الأوبئة والأزمات الاقتصادية، وإذا لم يجدوا في كل نازلة موقفا للسخرية ماتوا هما وكمدا.
وعى توفيق هذا وانتهج السخرية في كتاباته، ليست السخرية المضحكة، بل سخرية القدر، الضحك على قلة الحيلة، التهكم على المصاب، هي إن صح القول استياء غير جارح.
كان أحمد يرى الأمور بعدسة أخرى غير تلك التي يرى بها الناس كل شيء.
يجد في كل قصة وموقف لحظة ساخرة تضحك القارئ سذاجتها، وتدهشه غرابتها.
يقول: “قلت لها إن القراءة بالنسبة لي نوع رخيص من المخدرات لا أفعل بها شيئا سوى الغياب عن الوعي فقالت اتنيل فتنيلت.”
عربي حتى النخاع بنكهة عامية
كتاباته ليست غربية اللحن والفكر، بل هي قصص حقيقية صيغت بحبكة خيالية تحكي الفكر العربي والموقف العربي والعرق العربي،
وقد أعطى مزج العامية باللغة الكلاسيكية نكهة واقعية لكتابات أحمد خالد توفيق، فالمعنى عربي خالص، واللفظ عامي كلاسيكي، يتفاعل القارئ معه لأنه يرى مجتمعه في حروف الكتاب، فيقرأ قصة خيالية هي أقرب للواقع من الخيال.
حبه للشباب، وقربه منهم، وصياغته العذبة للمعاني، وسخريته من المواقف الاجتماعية.
عذوبة فكره ونقاء لغته، عوامل جمة جعلت هذا الكاتب بجدارة كاتب الشباب الأول فاستحق بذلك لقب العراب.