في الصالة الخلفية، يصدح رنين الهاتف ليعلن عن مكالمة منتظرة…
-المتحدث على الطرف الآخر: “… نبلغك سيدي بأن مراسم التكريم ستكون في ساحة الملاكمة الكبرى المسماة باسمك في تمام الساعة الخامسة يوم الأربعاء القادم، ننتظر مجيئك بمشيئة الله”.
-علي: “إن شاء الله سأكون هناك في الميعاد بالضبط، شكرًا لك”.
وما لبث أن أغلق “علي” الهاتف، حتى بدأت الذكريات تتدفق أمام عينه، فمنذ أصيب بمرض باركنسون، لم تطأ أرجله أرض النادي، فهل يقوى على فعل ذلك مرة أخرى؟
لطالما حلم بأن يمثل النادي في أهم البطولات، وأن يجلب له العديد من الجوائز، واليوم بالكاد يستطيع الحركة ليجلب لنفسه الدواء، فما جدوى التكريم!
لقد بات الحلم سرابًا، وها هو حبيس بيته، يشاهد البطولات فقط عبر التلفاز…
بداية الاكتشاف
كان يعلم أن ثَمَّةَ أمر غريب يحدث له، منذ رَجفت يداه ولم تَعُد ضرباته بالقوة نفسها، وفقدانه الاتزان أكثر من مرة، حينها أحس بأن الخسارة وشيكة لا مفر منها.
كان يُكذب نفسه، ويُوهمها بأن هذا من ضغط التدريبات المستمرة قبيل البطولة، ويا ليته أنصت لجسمه منذ البداية!
-المدرب: ماذا بك يا علي، مستواك دون المعتاد في التدريبات؟
-علي: لا شيء، مجرد إرهاق، لم أنم البارحة جيدًا، ربما أحتاج بعض الراحة.
-المدرب: حسنًا، يمكنك الراحة لباقي اليوم، لكن حاول أن تنام جيدًا اليوم، فأمامنا بطولة قوية، يمكنك المرور بالطبيب أيضًا لتطمئن.
-علي: لا تقلق، أعدك أن نحصد المركز الأول.
-المدرب: هذا هو بطلنا الهمام.
لم يعرف حينها إن كان يَعِد نفسه بتحقيق الحلم أم أنه يَعِد المدرب حقًا؟ لكنه سمع النصحية وذهب إلى الطبيب.
-الطبيب: أهلا بك يا علي، لعله خيرًا مجيئك لي؟
-علي: خيرًا إن شاء الله، مجرد إرهاق ورعشة بيدي واضطرابات بالنوم، وكذلك نسيان لبعض التفاصيل.
-الطبيب: حسنًا، سأصف لك بعض التحاليل والإشاعات الطبية، وحتى تظهر النتيجة احرص على تناول هذه الفيتامينات.
-علي: شكرًا أيها الطبيب، سأنصرف الآن.
-الطبيب: علي، أنتظر، منذ متى وأنت تتمايل في مشيتك هكذا؟
-علي: لا أتذكر، ربما منذ أسبوع، ربما يكون ضغط التدريبات المتواصلة هي السبب، فالبطولة أصبحت وشيكة.
-الطبيب: إذا حاول أن تُجري الفحوصات في أسرع وقت، ووافني بالنتيجة.
-علي: فقط تنتهي البطولة وسأفعل لك كل ما تريد.
يوم البطولة… المواجهة
ساحة ممتلئة، أصوات صاخبة، حماسة مندفعة، وأدرينالين في السماء…
يلاكم “علي” وزميله كلاهما الآخر وسط أصوات المشجعين على الجانبين، كل منهما يسبق الثاني ليسدد اللكمة الأقوى، ضربات مدروسة في أدق الأماكن، حصاد 4 شهور تدريبات وأحلام وخطط، بات على مقربة غمضة عين.
وفجأة يفقد “علي” اتزانه إثر لكمة عنيفة من منافسه، يحاول الصمود ورد الضربات، لكن تخونه قدميه ويزداد الدوار، ويسقط مغشيًا عليه في ساحة أحلامه وسط صياحات وصراخ جمهوره.
لحظة الحقيقة… مرض باركنسون
-الطبيب: حمدًا لله على سلامتك.
-علي: البطولة .. الحلم.. الكأس..
-الطبيب: اهدأ قليلًا، حالتك حرجة وتحتاج للراحة.
-علي: كيف السبيل للهدوء! لقد ضاع كل شيء.
-الطبيب: لا عليك، فقط عليك الآن الانتباه لصحتك، يؤسفني “علي” أن أخبرك بأنك تعاني مرض باركنسون، رعشة يديك واضطرابات نومك ومشيتك كانوا مؤشرًا أوليًا، لكنك لم تنتبه للتعليمات ولم تجري الفحوصات.
-علي: ماذا! باركنسون! أتعني أنني أصبحت مشلولًا، انتهت حياتي وسأصبح قعيدًا؟!
-الطبيب: علي، اهدأ قليلًا، فمرض باركنسون مزمن كما تعلم ونحتاج إلى الحكمة للتعامل معه، كما إنك ما زلت في بدايات المرض، وإذا اتبعت التعليمات وداومت على تناول الأدوية، فلن نصل إلى مرحلة فقد الحركة.
كذلك يمكننا أيضًا إجراء عملية جراحية تخفف من تقدم المرض وتحسن حالتك، فيمكننا إجراء عملية بالدماغ لزرع أقطاب كهربائية، أو عملية أخرى بالأمعاء تساعد على ضخ العلاج للدم مباشرةً، وكلاهما يساعدان على تقليل الأعراض بل وتحسين حالتك.
-علي: لن أجري أي شيء، ماذا ستفعل لي العملية! هل ستعيدني كالماضي، بالطبع لا، لقد انتهيت والآن اتركني من فضلك.
يوم التكريم…
واليوم نعلن منح البطل “علي” الميدالية الفخرية لكونه رمزًا هامًا في تاريخ النادي، وطالما رفع اسمه عاليًا وأحرز له العديد من البطولات، كذلك سيُنصب رئيسًا فخريًا للجنة اختيار لاعبي الملاكمة لفرقة الناشئين بالنادي لخبرته الكبيرة.
لم يصدق “علي” أذنيه وهو يسمع مقدمة تكريمه، كان يعتقد أن مرض باركنسون سلب منه الماضي والحاضر، وأنه أصبح مجرد ذكرى، فجاء التكريم ليعيد له فرحة انتصاراته الماضية ويُحيي له الأمل من جديد.
تيقن “علي” في ذلك الوقت بأن مرضه لم يكن سوى منحة من الله، وإن الله لا يمنع شيئًا إلا لخير ولا يعطي إلا خيرًا.
كذلك يجب عليه التعامل مع مرضه بشكل آخر، وأن يتحرى كل أساليب العلاج، وربما يجري الجراحة أيضًا، فكما خلق الله الداء خلق الدواء.